وثائقي تونسي يبحث عن الآفاق بين حلم أوروبا وفراغ الأوطان
تمكن السينما الوثائقية من استعادة الماضي ورسم الأفكار مجددا ورصد التاريخ وحتى المستقبل. ولعل في المزج بين السمة الوثائقية والروائية ما يخلق متعة كبيرة في عمل فني لا هو خيال صرف ولا هو واقع جاف. وهذا ما انتهجه الفيلم التونسي “في انتظار محمد علي” الذي يبحث في سيرة واحد من كبار المناضلين الوطنيين.
إن عدم التفريق بين الواقعي والخيالي والاسترجاعي يستدعي منا اختراع معابر من نوع خاص لتفكيك البحث الفضولي لتلك الجزئيات الغامضة من التاريخ، بين الوجود الباعث والمنشود المتعلق بالنواة التأسيسية الأولى وتلك التصورات التي أحكمتها الرؤية السينمائية كجزء تفصيلي منها، لتكون المنفذ الحسي البصري للتعبير عن شاغلة وفكرة ورحلة مشتركة اختارها كل من عبدالحميد بسي وياسمين بن صالح لإنجاز فيلم روائي وثائقي قصير بعنوان “في انتظار محمد علي”.
وشارك الفيلم مؤخرا في مهرجان الفيلم العربي القصير في بيروت، وكما يعلن أفيش الفيلم فإن شخصية دالي ممرض تونسي مهاجر في ألمانيا، على وشك اجتياز تقييم مهني، في حين تستعد نورا لامتحان مهم، يلتقي الاثنان في غرفة الانتظار بإدارة شؤون المهاجرين في برلين، وهي محطة ضرورية في رحلة تحقيق “الحلم الأوروبي”، حيث من المفترض أن يكون تكافؤ الفرص قيمة أساسية دون تفرقة في ألمانيا، ولكن الواقع يظهر عكس ذلك من خلال الإجراءات البيروقراطية، وهناك يتعرفان على محمد علي الحامي، الأب المؤسس للحركة النقابة التونسية، الذي عاش في برلين في عشرينيات القرن الماضي.
رمز المشهد
السمة الأولى للحركة التصويرية في الفيلم تتغذى على سؤال المشاهد وفضوله وبحثه في تداخلات اليومي والتاريخي الغامض
السمة الأولى للحركة التصويرية في الفيلم تتغذى على سؤال المشاهد وفضوله وبحثه في تداخلات اليومي والتاريخي الغامض
منذ الوهلة الأولى التي ينطلق فيها الفيلم تُطرح الفكرة الأساسية التي يرتكز عليها من ذلك الإطار العام وتلك الحركة البطيئة المألوفة التي قد تبدو مُملة مُضجرة جامدة، تتحكم فيها الأرقام وتحول الإنسان إلى رقم يتعايش بدوره مع انسيابية تلك الأرقام كدفق لا ينتهي بين الهنا والهناك، وهي لقطات تتحرك رغم الجمود وتنبعث مجددا نوعا ما في تصور إداري مرهق ومسار نحو الوجود والبقاء بين دول ترفع شعار الفرص المتكافئة للجميع وعرقلة الفرصة على الوافدين من الجنوب حيث تتعمد التعطيل والتهميش والتأجيل.
من خلال السعي نحو أوروبا بين التكافؤ والبحث، بين الاندماج والتعايش، بين ألمانيا التي تقبل الجميع وألمانيا التي تنتقي مهاجرين وتتعامل معهم بحساسية الوضع وأحقية الوجود ودونية المستوى، تحدث التداخلات المعلنة والخفية في تصاعدية الفيلم ومشاهده التي تثير حيرة المشاهد بين المعايشة والاندماج بين التساؤل الذي ينتظر التكملة والفراغ الذي يتوق للانتهاء.
كل تلك التماسات تعيد ابتكاراتها وانعكاساتها على “دالي” و”نورا” وهما شخصيتا الفيلم اللتان أداهما كل من بسي وبن صالح، حيث كان ذلك التماس في تلك الأوراق المنسية في غرفة الانتظار بإدارة شؤون المهاجرين في برلين، بعد مقابلة مؤجلة لتمديد الإقامة، واكتشاف مختلف من تاريخ تونس عنوانه محمد علي الحامي رمز المشهد النقابي في تونس ومؤججه الأول، حيث يطرح الفيلم تساؤل تأثير المرحلة التي عاشها في برلين تلك النقطة الحسية العنيدة للبحث التي التقى فيها الكل بالكل بين بحث وتوثيق.
رغم أن الحركة في الفيلم لا تبدو متسارعة وتكاد تكون مملة لولا الفضول الذي يدفع الممثلين باستدراج المشاهد معهم نحو عوالم الآخر، ألمانيا الأوروبيين وألمانيا العالم الآخر القادم من الجنوب، وعوالم الذات في روح محمد علي الحامي.
ليس عبثا أن تحمل “نورا” لقب “حشاد” ولا عبثا أن يكون رفيقها في الفضول “محمد علي- أو دالي” وهي همزة وصل تفاعلية تمتد عبر رموز الحركة النقابية واليسارية في تونس، باعتبار النواة الأولى في التاريخ الباقي لهذه الحركة التي عانت منذ بداية جامعة عموم العملة التونسيين من ويلات المحاكمات السطحية بين خلط حركتها بين الشيوعية والتمرد النقابي وهي مناهج النضال على جميع الأصعدة الداخلية والخارجية وهي الفراغات المحدثة في واقع يومي بين تأثيرها وتغاضيها وبحثا عن حق العمال في تونس وذلك الفراغ الدافع للبحث عن ملاذ منقذ في أوطان أخرى.
بين الوجود والفعلية
الفيلم من تمثيل وكتابة سيناريو وإخراج عبدالحميد بسي، وياسمين بن صالح
الفيلم من تمثيل وكتابة سيناريو وإخراج عبدالحميد بسي، وياسمين بن صالح
بين اللغة العربية والفرنسية والألمانية والإنجليزية يسرد الممثلون دهشة البحث وفضول المعرفة في تكاملات مع الشوارع والأمكنة التي مر وعبر منها الحامي، وكل تفصيل يحاكي تساؤلا، وكل لقطة تدعي إلى مقارنة، حيث يحمل الفيلم رؤاه ويتكامل مع التوثيق بالعودة على تواريخ وأحداث.
تم تأكيد إقامة محمد علي الحامي في برلين لأول مرة، عندما عمل كمدقق حسابات في جامعة فريدريش فيلهلم، والتي أصبحت حاليا جامعة هومبولت في برلين، في 25 ماي 1920، وهو العام الذي تم فيه توثيق تسجيله الرسمي كطالب في مجال الاقتصاد في نوفمبر 1920، وقد تابع دورات تكوينية في ألمانيا في هاينريش كونو، المنظر الماركسي وهاينريش هيركنر الاقتصادي الألماني وهو ما يوضح استلهام جانب من الفكر اليساري والنقابي، خاصة مع اهتمامه بتنظيم التعاونيات الريفية، كما حضر دورات أوغوست مولر، وزير الاقتصاد في عهد فريدريش إيبرت.
شارك الحامي في نشاط “اتحاد الجمعيات الإسلامية الثورية” في برلين ثم نادي الشرق الذي تأسس سنة 1921 وحمل فكره النقابي إلى تونس لتأسيس جامعة عموم العملة التونسيين سنة 1924.
من خلال كل هذه المرحلة التاريخية أراد فيلم “في انتظار محمد علي” أن يسلط الضوء على التفاصيل الحسية التي انتابت كلا من نورا ودالي بحثا عن تلك الروح التي تجانست مع إقامة الحامي في برلين ومدى تأثيرات كل ذلك على خلق الوعي النقابي وتأثيره على تاريخ تونس، خاصة بعد عودته وعمله في تونس بتلك الروح النضالية والمبادئ الاستشرافية التي امتزجت مع الواقع الاجتماعي الإسلامي التونسي.
بين اللغة العربية والفرنسية والألمانية والإنجليزية يسرد الممثلون دهشة البحث وفضول المعرفة في تكاملات مع الشوارع والأمكنة
وقد ركز الحامي على إنشاء تعاونيات المستهلكين والمنتجين، لتحسين الوضع البائس للقوى العاملة وبناء اقتصاد بديل للاقتصاد الاستعماري، لذلك كانت معركته موجهة ضد القمع الأجنبي للمجتمع التونسي، وقد كان توجهه الأول مستوحى من النموذج الألماني للتعاونيات التي تشتري المنتجات الزراعية، المسمى Raiffeisen.
كانت إضرابات عمال الرصيف في تونس وبنزرت سببا في إعادة هيكلة المشهد النقابي التونسي، حيث حسمت أيضا الالتزام السياسي للحامي بنفيه إلى مصر، ثم وفاته بالسعودية سنة 1928.
لا يمكن اعتبار “في انتظار محمد علي” فيلما توثيقيا بالمعنى الاعتيادي للأسلوب، ولكنه حمل تساؤلات تلك الرؤى البصرية والمنافذ الحسية التي خلقت روح الانتظار المستمر لتأشيرة عبور لأوروبا انتظارا لتدفق مستمر أنتجه الخلل الاقتصادي وحالات الإهمال والبحث عن تحقيق الحلم المشتهى في أوروبا.
لعل مشهد المحاورة بين دالي وسائق الحافلة التونسي المقيم في ألمانيا منذ أكثر من عشرين عاما يعكس أيضا أن الأجيال لم تتوقف عن ذلك البحث وتلك الرغبة في ضمان وتضمين فكرة العمل والاستقرار، وطموح التكافؤ بين المردود والنتاج والضمان، وكأن المستقبل أيضا جُبل بالانتظار كفعل استمراري انعكس في تلك الأرقام المكررة وتلك الصورة الجامدة التي تهدأ وتسوء “تكافؤ الفرص” أيضا بين الهنا والهناك والحرص على الهناك الذي بات فيه تدجينا لم يحمل تبعات مراحل الوعي التي تنعكس على الدول الأم.
إن السمة الأولى للحركة التصويرية في الفيلم، تتغذى على سؤال المشاهد وفضوله وبحثه في تداخلات اليومي الشبيه والتاريخي الغامض مع التصعيد النفسي وتوتراته المتشابكة مع حركة المكوث والتأجيل.
وتجدر الإشارة إلى أن الفيلم من تمثيل وكتابة سيناريو وإخراج عبدالحميد بسي طالب دكتوراه في الدراسات الألمانية مهتم بالاقتباس الأدبي، وياسمين بن صالح، حاصلة على إجازة في الفلسفة وماجستير بحث في السينما، سبق لها أن شاركت في إخراج فيلمين وثائقيين مع المخرجة آمنة الشعبوني، ينشطان في نادي السينما بتونس الجامعة التونسية لنوادي السينما.