العبودية في أسوأ تجلياتها

كل يوم بعد آخر تتسع الهوة بين الفقراء والأغنياء على هذه الأرض الطيبة، ويتسع المدى ويتمدد بينهما،،،، الفقراء يزدادون فقرا والأغنياء يزدادون ثراء،،،، فهذا يتسكع في شوارع مغبرة مليئة بالقمامة بحثا عن قوته، تحت أشعة شمس لافحة، يعالج المرض بالجوع، والجوع بالصبر، والصبر بالأمل في دوامة لامتناهية،،، وهذا مترف يركب سيارة فارهة ويتنقل بين فنادق الخمس نجوم، يتعالج من تخمة المال الحرام في أرقى مستشفيات الخارج، يُدرس أبناؤه في مدارس أجنبية لتوريثهم مناصب عليا تضمن لهم حياة مترفة كأسلافهم في عملية سلسلة ودون ضجيج، وبين هذا وذاك برزخ لسجناء الله في أرضه الواسعة، أصحاب الرواتب الضعيفة، فهم منزلة بين المنزلتين، يسمعون صرير بطون الفقراء الخاوية وصرخات أطفالهم وأنين مرضاهم من جهة، ومن جهة أخرى يشتمُّون روائح العطور الفرنسية النفاذة التي يعادل سعر القنينة الواحدة منها راتب شهرين لأستاذ بأقدمية 20 سنة. هذا التباين الكبير في ظروف العيش يستدعي الوقوف على أسبابه ومكامن الخلل فيه، لذلك سنتناوله من زاوية طبقة الأغنياء وهي الأقل عددا والأكثر تأثيرا لتحكمها المطلق في مفاصل الدولة، فهي المسير الرئيسي للاقتصاد، تتحكم في نوع الصفقات وعلى من يتم إرساؤها، وتوريد المواد ومن يحق له توريدها، فضمن هذه الحلقات الضيقة يولد رجل أعمال من حين لآخر دون مخاض أو حمل، فقد تجد بائعا للسجائر أو مهربا للأرز نكرة في عالم المال والأعمال يصبح غنيا بين عشية وضحاها، يسير المليارات بعقلية الفقير المعدم، يحتكر الصفقات الكبرى ويضايق صغار تجار التجزئة وسائقي التكتوك وبائعي الخضار، إذ لا يرضى أن تضخ أوقية واحدة في هذا الاقتصاد الهش إلا عن طريقه، ضاربا بذلك أحسن مثال للعبودية الاقتصادية، فتحكم هؤلاء في رقاب المستهلكين وصغار المستثمرين هو تقييد لحريتهم المالية وفرض أسلوب تربحي تعسفي على حسابهم، والحكم عليهم بالبقاء في دائرة الفقر المدقع.
أغلب رجال الأعمال لا يستمثر في المجالات التي تدعم الاقتصاد وتخلق فرص عمل، بل يكتفي بامتصاص عائدات البلد بعقود أبرمت في ظروف مشبوهة، والبعض منهم يتخذ من الغش وخداع الزبون أقصر طريق لجني الأرباح دون رقيب أو حسيب، فالبضاعة المغشوشة والأدوية المزورة أمثلة حية على ذلك.
وقد تجد كذلك في هذه الطبقة موظفا براتب شهري محدود يمتلك فللا وعمارات وقطع أرضية وحسابات بنكية في وقت وجيز من تعيينه في منصبه، وقد تجد كذلك مقاولا ينطلق من نقطة الصفر إلى استلام صفقات بالمليارات، فهذا الثلاثي يعمل في انسجام تام والخيط الرابط بينهم هو مصالحهم الشخصية، فالمقاول هو حلقة الوصل بين رجل الأعمال وجهات العمل التي هي في أغلبها جهات حكومية، ومن هنا تبدأ الخيوط في التشابك ويتم التوقيع على الصفقات بعد نقاش تفاصيلها خارج العمل في أماكن هادئة كمقاهي الفنادق، والمنازل البعيدة عن الأضواء، ليضمن كل ذي (حق) حقه، وفي هذا الطريق الملتوي يقدم مغفلون من مقاولي الطبقات الهشة عروضا للمشاركة في الصفقات ويدفعوا مقابل ذلك رسوم غير قابلة للاسترجاع، وهذا هو نصيبهم من مثل هذه العمليات التي تأخذ مسارين واحد من فوق الطاولة وهو استدراج العروض وفق المسطرة العادية لإضفاء صيغة قانونية على العملية لكنه إجراء شكلي، والآخر من تحتها وهو الأهم، ومن هنا يجد السائل جوابا شافيا عن امتلاك موظف لثروة تفوق راتبه ألف سنة، وعن رجل أعمال بلا أعمال، وبينهما مقاول وسيط هو الوجه الطافي على السطح لمثلث النهب.
هذا طبعا ليس هو أخطر ما في الموضوع يا إخوتي الفقراء، فهناك ما يمكن تسميته بالخطر الصامت، وهو التمييز الإيجابي في التوظيف والمنح الدراسية المهمة، لصالح أبناء كبار الموظفين من الدائرة الضيقة لرجالات الدولة العميقة، وهنا يفهم المغفل بسهولة سبب وجود أسر في وظائف سامية وبشكل دائم، لا أتحدث هنا عن الوزراء فتلك ترضيات قبلية قصيرة المدى تستهدف التوازنات قبل كل انتخابات،،،،لكن المسابقات المهمة كالطلبة الضباط والتخصصات المهمة في المنح الدراسية، ورخص الصيد ومنح التراخيص للمصانع والمنشآت وغير ذلك هو ميدان مريح للتمييز الإيجابي وخارج رقابة الفقراء المشغولين بتوزيعات أرخص أنواع السمك التي تتم بطريقة مذلة جنبا إلى جنب مع ما يسمى حوانيت أمل التي لا تعدو كونها حلولا ترقيعية تستهدف إسكات جائع أسكته الجوع والمرض منذ ستين سنة،،،، إخوتي الفقراء في جعبتي الكثير لكنني أجهل القانون وأخاف إن طال بنا الحديث الاحتكاك مع قانون الرموز الذي استهدف حريتكم ومساحة الترفيه التي كانت متاحة لكم، فموتوا بغيظكم أيها الفقراء، لا نملك لكم إلا نبش مآسيكم ونشرها على قارعة الطريق لتشوش روائحها النتنة على بخور الصالونات الهادئة لإخوتكم المترفون.
محمد ولد بده

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى