افريقيا تخلع فرنسا
نفذت «الأمم المتحدة» ذاتها أوامر قادة انقلاب مالي، وأجلت قوات حفظ السلام، فالحقوق السيادية معترف بها لكل صور السلطات، ونوع الحكم في أي بلد يقرره شعبه، لكن فرنسا التي تحس بدنو أجل سيطرتها في افريقيا، تتصرف بتعنت وجلافة تتعارض مع كل المواثيق، ولا تريد أن تعترف حقا باستقلال مستعمراتها السابقة، وربما تحلم بإعادة استعمارها وإخضاعها بالقوة العسكرية المباشرة، ومن دون أن تدرك عجزا آلت إليه قوتها، وميل حليفتها وقائدتها أمريكا إلى سلوك آخر، تعترف فيه مؤقتا بسلطات الأمر الواقع، وعلى أمل تغييرها في ما بعد، بانقلابات أو بانتخابات، وتترك واشنطن فرنسا وحيدة في حالتها العصبية الهائجة، وشعورها المفزوع بأن الأرض تميد من تحت أقدامها، بينما أمريكا تريد مرونة في السياسة، قد تفيد في مواجهة النفوذ الصيني المتضخم الزاحف في افريقيا، المتأهب لوراثة الغرب كله في القارة السوداء، وبديناميكية اقتصادية هائلة، ومن دون التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأفريقية، وخلف الصين بخطوات، تأتي حليفتها روسيا، التي تعتمد على صادرات وهبات القمح والسلاح وتمدد جماعات «فاغنر»، وتقدم وعدا ضمنيا للحالمين بالتخلص من الداء الفرنسي، بأن تقدم لهم الحماية المطلوبة، وهو ما يفسر جاذبية علم روسيا الطاغي في أوساط المتمردين الأفارقة اليوم، ورفعه في كل مناسبة احتجاج وسخط على الغرب، وعلى فرنسا بالذات.
وقد يقول البعض، إن على فرنسا أن تراجع تاريخها الأسود، وأن تعتذر عن فظائعها بحق شعوب افريقيا بالذات، لكن فرنسا تكابر، وتعتبر أنها هي التي خلقت دول افريقيا «الفرانكوفونية»، تماما كما تدعي أنها خلقت «الجزائر»، لكن التاريخ لا يخضع لمشيئة فرنسا، ولا لعنصريتها الفاقعة، وكما يقول النص القرآني «ويمكرون ويمكر الله»، فإن للتاريخ مكره وسخرياته ومفارقاته، فقد سعت فرنسا إلى «فرنسة» الجزائر وغرب افريقيا، ودار التاريخ دوراته، وزحف الجزائريون بالهجرة إلى فرنسا، وفعلت شعوب افريقية أخرى اضطرارا، وكادت أمنية «فرنسة الجزائر»، تنقلب إلى «جزأرة فرنسا»، وربما «أفرقة فرنسا» في ديارها، وعلى نحو ما تعكسه انتفاضات الضواحي في باريس وغيرها من المدن الفرنسية، وآخرها ما جرى عقب مقتل الشاب نائل ذي الأصول الجزائرية، وكانت النتيجة، اشتعال حرائق غضب، كادت تدمر أمان فرنسا، إن لم يكن اليوم فغدا، إنه انتقام التاريخ الماكر، الذي ترافقه موجات «خلع» تتقيأ فرنسا في عواصم افريقيا الفرانكوفونية، التي لن يكون انقلاب الغابون الأخير نهايتها، فما زال بطن افريقيا منتفخا بالغيظ من فرنسا، التي تعتبر نفسها راعية للحرية، وهي من أمهات القهر والإذلال والاستعباد.
كاتب مصري